الكاتب: الأستاذ فالح الشهرانى
حث الإسلام على بناء مجتمع قوي متماسك من خلال الإتقان والإخلاص في العمل، وتنمية الرقابة الذاتية تحقيقاً للجودة في أداء الأعمال. وكثير من الآيات القرآنية الكريمة تعزز الالتزام بالجودة والإتقان في العمل بدافع إيماني، قال تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، وجاء في الحديث الشريف «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (البيهقي، 1416هـ، ص127).إن الأحداث المتلاحقة التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي أحدثت تغيرات كثيرة في النظم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتركت بصماتها قسراً أو اختياراً على كثير من النظم التعليمية في المجتمعات المختلفة، وجعلت التغيير للارتقاء بالتعليم أمراً ضرورياً للبقاء، ومن يرفض التغيير أو يعيقه يحكم على نفسه بالفناء، وفرضت الاهتمام بالمواصفات والشروط التي يتم بمقتضاها الحصول على شهادة الجودة العالمية (ISO).ففي القرية الكونية التي تعيش فيها كافة المجتمعات في إطار من التنافس والتحدي من أجل البقاء، احتلت الجودة الشاملة مكانة الصدارة في تفكير الاقتصاديين والتربويين لتحسين نوعية التعليم بكافة مستوياته وفي جميع أبعاده وعناصره. وأصبحت الجودة الشاملة إحدى القضايا التي تهم القيادة الإدارية في أي مؤسسة تسعى لرفع أدائها، كما استخدمت الجودة في التنافس بين تلك المؤسسات، إذ أن الجودة الشاملة تستمد طاقة حركتها من المعلومات ومن توظيف مواهب العاملين واستثمار قدراتهم الفكرية على نحو إبداعي لتحقيق التحسن المستمر للمؤسسة.ولما كان نجاح الإدارة يرتبط بالكفاءة الإنتاجية، لذا ظهرت إدارة الجودة الشاملة (TQM) لتحقيق رفع الانتاجية واستمرارية الجودة، وأصبحت إدارة الجودة الشاملة استراتيجية متكاملة لتطوير المؤسسات الإنتاجية والخدمية، ومنها المؤسسات التعليمية، لأنها إدارة تركز على أداء العمل بطريقة صحيحة، وبأسلوب نموذجي ومثالي يتجنب تبديد الموارد أو سوء استغلالها، ويقلل المنازعات بين العاملين، ويرضي المستفيدين ويدعم الابتكار والتجديد.إن جودة التعليم ليست هبة تمنحها الحكومات، وإنما فرصة تصنعها الأمم وتستثمرها الشعوب، وتضحي من أجلها بالوقت والجهد والمال والمثابرة. وجودة التعليم لا تبدأ من القاعات ولا المؤتمرات ولا من القوانين، بل تبدأ من المدرسة ومن الفصول ومن اهتمام الوالدين ومن مشاركة الإدارة والمعلمين والطلاب في تحمل مسؤولية تطوير التعليم وضبط جودته. وتتحقق جودة التعليم من خلال وجود سياسة واضحة ومحددة للجودة الشاملة، وكفاءة التنظيم الإداري للمؤسسات التعليمية، وتفعيل نظام المتابعة والتقويم لتفادي الوقوع في الأخطاء، وتوفير نظم تدريب عالية المستوى للهيئة التعليمية والإدارية.إن الاهتمام بضبط الجودة في المؤسسات التعليمية نبع من النظر إلى التعليم باعتباره سلعة -كغيره من السلع- لا بد له أن ينافس، وأن يسعى إلى إرضاء مستهلكي تلك السلعة من الطلاب والمجتمع والدولة. فالطلاب يرغبون في الحصول على أفضل المؤهلات للحصول على الفرص الوظيفية التي تزداد شحاً بازدياد عدد الخريجين وقلة فرص العمل، وأولياء أمور الطلاب يتطلعون إلى أفضل تأهيل لأبنائهم، أما الدولة فترنو إلى مخرجات تعليمية متميزة تمكنها من تحقيق أهداف خططها التنموية. ويرى بعض الباحثين أن عدم النهوض بمخرجات التعليم لتكون ذات إسهامات فعالة في تنمية المجتمع، يترتب عليه ظهور البطالة في صفوف المتعلمين، وانخفاض المستوى المعيشي لعدد كبير من الأسر، وعدم الارتباط بين تخصصات التعليم ومتطلبات سوق العمل.
ولذلك تُعَدُّ الجودة أداة فعالة لتطبيق التحسين المستمر لجميع أوجه النظام في أية منشأة. ويقدم معهد الجودة الفيدرالي بالولايات المتحدة الأمريكية تعريفاً للجودة الشاملة هو “القيام بالعمل بشكل صحيح ومن أول خطوة مع ضرورة الاعتماد على تقييم العمل في معرفة مدى تحسين الأداء”. ويعرف تنز وديتورو الجودة بأنها “استراتيجية عمل أساسية تسهم في تقديم سلع وخدمات ترضي بشكل كبير العملاء في الداخل والخارج، وذلك من خلال تلبية توقعاتهم الضمنية والصريحة”. وهذه الاستراتيجية تستخدم مهارات العاملين وقدراتهم الذاتية لصالح المنشأة بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام. كما أنها تسهم في دعم الوضع المالي للمسهمين. ويشير بعض الباحثين أن الجودة قد يتسع مداها لتشمل جميع النشاطات داخل المؤسسة إلى جانب جودة المنتج نفسه، ومنها جودة الخدمة، وجودة المعلومات والتشغيل، وجودة الاتصالات، وجودة الأفراد، وجودة الأهداف، وجودة الإشراف والإدارة. توضح تلك التعاريف أن الجودة مفهوم متعدد الجوانب يصعب حصره في دائرة ضيقة لاشتماله على أبعاد مختلفة تتضمن مفاهيم فنية وإدارية وسلوكية واجتماعية، لعل أبرزها المساواة، والفعالية، والملاءمة، وسهولة المنال، والقبول، والكفاية. ونظراً لتعدد مفاهيم الجودة الشاملة، فقد حاول العلماء والمتخصصون التمييز بين خمسة مداخل لتعريف الجودة الشاملة هي: المدخل المبني على أساس التفوق، والمدخل المبني على أساس المستفيد، والمدخل المبني على أساس القيمة، والمدخل المبني على أساس المنتج، والمدخل المبني على أساس التصنيع.مفهوم الجودة الشاملة في التعليم له معنيان مترابطان: أحدهما واقعي والآخر حسي. والجودة بمعناها الواقعي تعني التزام المؤسسة التعليمية بانجاز مؤشرات ومعايير حقيقة متعارف عليها مثل: معدلات الترفيع ومعدلات الكفاءة الداخلية الكمية، ومعدلات تكلفة التعليم. أما المعنى الحسي للجودة فيتركز على مشاعر وأحاسيس متلقي الخدمة التعليمية كالطلاب وأولياء أمورهم، ويعبر عن مدى رضا المستفيد من التعليم بمستوى كفاءة وفعالية الخدمة التعليمية. فعندما يشعر المستفيد أن ما يقدم له من خدمات يناسب توقعاته ويلبي احتياجاته الذاتية، يمكن القول بأن المؤسسة التعليمية قد نجحت في تقديم الخدمة التعليمية بمستوى جودة يناسب التوقعات والمشاعر الحسية لذلك المستفيد، وأن جودة خدماتها قد ارتفعت إلى مستوى توقعاته.وهذا يتطلب من مديري التعليم والمشرفين التربويين ومديري المدارس التأكد من توافق مواصفات الخدمة التعليمية مع توقعات المستفيد المتلقي لها. وفي حالة وجود فجوة بين المواصفات والتوقعات يجب تحديد أبعاد هذه الفجوة وأسبابها والعمل على تجاوزها باتخاذ كافة الإجراء التصحيحية المناسبة. فالجودة في الاقتصاد المعاصر “لا تعني إنتاج سلعة أو خدمة أفضل من نظيرتها المتاحة، وإنما تعني رضا المستفيدين عن السلعة أو الخدمة”. وفي إطار المشروع البريطاني للجودة في التعليم العالي ظهرت عدة خصائص للجودة الشاملة في التعليم منها .أ – إن الجودة تساوي المقاييس المرتفعة مهما اختلفت الفروق بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والإداريين في التعليم.ب – إن الجودة تركزعلى الأداء بصورة صحيحة من خلال تنمية القدرات الفكرية ذات المستوى الأعلى، وتنمية التفكير الابتكاري والتفكير الناقد لدى الطلاب.ج – إن الجودة تعني التوافق مع الغرض الذي تسعى إلى تحقيقه المؤسسة التعليمية.د – إن الجودة تشير إلى عملية تحويلية ترتقي بقدرات الطالب الفكرية إلى مرتبة أعلى، وتنظر إلى المعلم على أنه مسهل للعملية التعليمية، وإلى الطالب على أنه مشارك فعال في التعليم.