الكاتب‭: ‬محمد‭ ‬الحاجي

على مر الأزمنة، تصارع السلاطين والساسة على (حق امتلاك المعرفة ومصادر المعلومة). فالمعرفة قوّة وسلاح، بشكلٍ يوازي المال والعتاد العسكري.
ولأن المعرفة بهذه الأهمية، هناك من يحاول الاستئثار بها لنفسه. ولهذا تأسس مجال «إدارة الفهم» مبكرا في الأوساط الأكاديمية والسياسية.

تُعرّف وزارة الدفاع الأمريكية مفهوم «إدارة الفهم Perception Management» بأنه يتمثل في أي عملية (نشر) لمعلومات أو أي عملية (حذف) لمعلومات لأجل التأثير على تفكير الجمهور والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصلحة.

ولأن النشر والحذف يتطلّبان أساليب دقيقة ومعرفة تامة بعلم النفس والسلوك والإدراك، قام باحث ستانفورد المختص بتاريخ العلوم بروكتر روبرت Robert Proctor بصياغة ما يُعرف ب: «علم الجهل» Agnotology وهو: «العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية متقنة”!.

بدأت دراسات وتطبيقات علم الجهل في التسعينيات الميلادية، بعدما لاحظ الباحث دعايات شركات التبغ التي تهدف إلى تجهيل الناس حول مخاطر التدخين. ففي وثيقة داخلية تم نشرها من أرشيف إحدى شركات التبغ الشهيرة، تبيّن أن أبرز استراتيجية لنشر الجهل كان عن طريق «إثارة الشكوك في البحوث العلمية التي تربط التدخين بالسرطان».
ومن حينها انطلق لوبي التبغ في أمريكا لرعاية أبحاث علمية مزيّفة هدفها تحسين صورة التبغ اجتماعيا ونشر الجهل حول مخاطره.

كما هو مُلاحظ هنا، الجهل ليس انعدام المعرفة فقط، بل هو (مُنتَج) يتم صنعه وتوزيعه لأهداف معيّنة، غالبًا سياسية أو تجارية، وقد يكون الجهل منتجا معرفيا، كتعريف المرء بمعلومات خاطئة بقصد تجهيله بالمعلومة الصحيحة.
ولتوزيع هذا الجهل بين أطياف المجتمع، انبثقت الحاجة لمجال «العلاقات العامة» ، الصنعة التي تُعتبر الابن الأصيل للحكومة الأمريكية على حد تعبير تشومسكي. فعن طريق لجان «العلاقات العامة» تم تضليل الرأي العام الأمريكي والزج به في الحرب العالمية سابقا وغزو العراق لاحقا، بما كان يُعرف ب: Creel Commission (لجنة كريل).

* هذا التضليل استراتيجي ومُمنهج حسب أساسيات علم الجهل، والتي تستند على قنوات ثلاث:
- بث الخوف لدى الآخرين
- إثارة الشكوك
- صناعة الحيرة

وليس هناك أنصع مثالا من ممارسات الكثير من الحكومات في تجسيد مبدأ إثارة الرعب لدى المواطنين لتمرير مصالحها وأجندتها.

* فتارة، يتم صنع أعداء وهميين لتحشيد الرأي العام، وتارة يتم ترعيب الجمهور بالقدر المظلم إذا لم يشاركوا في هذه المعركة وتلك، وكأن الأرض ستفنى بدون هذا «الهجوم المقدّس».
لا غريزة بشرية تنافس غريزة حب البقاء، ولذا من الممكن أن تبيع السمك في حارة الصيادين عندما تهدّد أمنهم وبقاءهم!

* وأما إثارة الشكوك فهو ثاني أعمدة التجهيل، ويتم توظيفه غالبا في القطاع التجاري والاقتصادي ولا مانع في مجالات اخرى وهذا بالتحديد منهج الكثير من الشركات. فبعد هبوط مبيعاتها بنسبة 25%، بدأت شركة كوكاكولا العالمية مثلا بدفع ما يقارب 5 ملايين دولار لباحثين أكاديميين لتنفيذ مهمة تغيير فهم المجتمع حول أسباب السمنة، وذلك بتقليل دور المشروبات الغازية في انتشار السمنة وتوجيه اللوم إلى عدم ممارسة التمارين الرياضية! هذه «الأبحاث المدفوعة»  يتم نشرها لإثارة الشكوك في ذهنية الفرد حتى يعيد تشكيل موقفه بما يتناسب مع أجندة هذه الشركات. 

* ولأن كثرة المعلومات المتضاربة تصعّب من اتخاذ القرار المناسب، يدخل الفرد في دوّامة من الحيرة حتى يبدو تائها وجاهلا حول ما يجري، ويزيد العبء النفسي والذهني عليه، فيلوذ بقبول ما لا ينبغي القبول به، طمعا في النجاة من هذه الدوامة، وهذه تحديدا هي الغاية!

في هذا العصر الرقمي، بات الجهل والتضليل سلعة يومية تُنشر وتُساق على الجمهور، من حكومات وشركات وأصحاب نفوذ.

والصمود أمام كل هذه القوى يتطلّب جهودا ذاتية ووعيا مستقلا يبحث عن الحقيقة بعيدا عن العاطفة والأمنيات. وسيكون من قصر النظر وفرط السذاجة لو اعتقدنا أن «علم الجهل» و «إدارة الفهم» و «العلاقات العامة» محصورة على الغرب، بل هي أقرب إلينا من أي شيء آخر!  فهل نعيد مراجعة ما حولنا لنكتشف ما نحن فيه؟